البطين الدفين

We welcome back Iman Ali with a brand new story that she wrote back in 2010 and that she decided to submit it for our Siblings theme so we hope you enjoy it ^^

كان الضوء خافتاً في ذلك الوقت من اليوم. لم تكن هناك سحابة واحدة في السماء. إن ركز المرء قليلاً قد يسمع صوت يشبه صوت طائرة بعيدة عن العين و لكن حين وصل اذنها ملأها بنوع من الحنين الذي لم تستطع تفسيره.

كان اليوم آخر يوم للامتحانات. كان امتحان الإنجليزية و لم تكن تجيدها. كانت تذهب لحصص التقوية مع مريم، حصة و سلوى في الشهر الذي سبق موعد الامتحانات و لكنهم كانوا يستوعبون أفضل منها و في النهاية عندما سألتهم كيف فعلوا في الامتحان أطلقوا كلمات مثل “سهل،” و “عادي،” و “كنت أظنه أصعب من هذا،” و عندها لم يكن لها خيار إلا أن ترد عليهم بالمثل.

عندما توقف الباص المدرسي أمام منزلهم، خرجت منه بحسرة و كأن نزولها يقربها من موعد مشؤوم مع القدر. كان أباها مسافراً في رحلة عمل و أمها كانت تزور صديقتها في البيت المجاور لأنها اعتادت ذلك منذ ذهاب أبيها. عندما دخلت كان عبدالله، أخيها الصغير، يجلس على ركبتيه و هو يحل واجبه على سطح الطاولة. كان التلفاز يبعث بالكثير من الصوت و الضوء في الغرفة و لكن فور دخولها أخذ الجهاز و أطفأه و كأن مجيئها قد بعث بحياة منعشة كان مجرد يتصنعه التلفاز.

أمرته أن يلبس نظارته و لكنه هز رأسه نافياً و نزل حاجبيه و هو يتعب عيناه أكثر، يعض على لسانه بأسنانه في تلك العادة الكرتونية.

“اجلس على الأريكة على الأقل،” تنهدت و هي تأخذ بنصيحتها و تلقي بجسدها على المخدة.

“أمي اتصلت و تقول أن تحضري بصينية الحلوى في الثلاجة إليهم،” قال عبدالله بعد برهة من السكوت المريح.

كان حجابها الأسود متراكماً حول رقبتها، أرجلها التي ما زالت محاطة بحذاءها الذي قد تفكك خيطاه يرتاحان على طرف الطاولة.

“سلامة، هل تسمعينني؟”

“أسمعك جيداً!” قلبت سلامة عيناها. “لم لم تذهب بها أنت؟”

“لدي دروس و واجبات،” رد عبدالله و هو يدفع بشفتيه للخارج. “ثم إني أكبر من أن أدخل على أم نوف. أنا في الثانية عشرة الآن إن لم تكوني تعرفي.”

“لا تقول أنك لا زلت تخاف من تلك القطة الحمقاء.”

“لا-لا أخاف منها!” تأتأ عبدالله. “لكن لم ليس لديها ذيل؟ من قطعها؟”

“للمرة المليون: لا أعرف!” تمتمت سلامة. “أبي يظنك شجاعاً. ترى ماذا سيقول إن عرف أنك تخاف قطة لا تملك ذيلاً؟”

“أرجوك لا تخبريه!” ترجى عبدالله. كان قد تخلى عن قلمه و دفتره ليأتي لسلامة على ركبتيه. كان منظراً مضحكاً و مخزياً في الوقت ذاته و كانت الضحكة في حلق سلامة و لكنها لم تطلقها حتى لا تلطف الجو و يعرف أنها غير غاضبة.

“أنت كسول، لا غير،” قررت سلامة و هي تقوم.

“أنت الكسولة التي لا تستطيع أن ترتبي أشياءك بعد رجوعك من المدرسة!”

تجاهلت سلامة هذه الحقيقة لتصعد الدرج إلى غرفتها. ألقت بحجابها، حذائها، الكيس الذي حمل كتابها و أقلامها (و هذا ألقته بقوة مقصدوة) و غيرت بدلتها المدرسية لتنتقي جلباب تقليدي أزرق اللون. أمسكت بشيلة سوداء و نزلت لتمشي إلى المطبخ. كانت لا تزال رائحة الغداء تموج في الهواء. شغلت المروحة لتفتح الثلاجة. ارتاحت عيناها على صينية زجاجية شفافة تحمل في طياتها ما كان يبدو كمزيج من الشوكولاتة، الكريمة و الكراميل. كانت هناك قطع من الفستق تزين أعلى الحلوى. لم تستطع سلامة مقاومة رغبة تذوق صغير و بمهارة حقيقية مسحت ابهامها على الطرف الدائري في الزاوية بدون أن يبدو أنه قد لمس.

تحسن مزاجها قليلاً عندما دخل السكر دمها و هتفت لعبدالله أنها سترجع قريباً و أن يقفل الباب خلفها.

كان بيتهم يجلس في مستطيل مكون من ثلاث بيوت مشابهة. أمامهم سكنت عائلة هندية و يجاور تلك العائلة أخرى ألمانية. البيت المجاور لعائلة سلامة كانت لأم نوف الأردنية التي كانت قد زارتها أمها فور سكنهم. في منتصف المستطيل وقفت أرجوحة بيضاء كبيرة محاطة بكثير من النباتات، عدة أشجار نخيل و المزيد من الزهور.

لم تلتفت سلامة لأي من هذا إذ كانت تركز على صينية الحلوى التي حملتها في يديها المتجمدتين. كانت أمها كثيرة النسيان و كان أباها دائماً يؤنبها لهذا. كانت سلامة تفكر في كيفية تأنيب أمها و لكنها لم تكن لتجرؤ على قول شيء لوجهها فأمها لم تكن أبرد شخص تعرفه. كانت سلامة تفكر في أبيها الذي كان كقطعة ثلج و أمها كجمرة إذ كانت تلائم شخصياتهم المختلفة. كان أباها يقول أنها عصبية مثل أمها و لكنها كانت تنكر ذلك بشدة لضحك أمها العال. كان أباها قد نظر لوالدتها حينها و كأنهم يتبادلون مزحة خاصة و لم تكن سلامة ترغب بالسؤال عن مغزاه إذ كانت غاضبة حينها. إن سألتها اليوم لم تكن لتعرف أمها عما تتحدث – كانت ذاكرتها ضعيفة و لا زالت.

سمعت سلامة أصوات ضحك من الداخل. طالما ظنت أن رائحة بيت أم نوف غريبة. لم تكن سيئة على الإطلاق؛ كانت رائحة شيء لا تعرفه فحسب. فوجئت بصورة شخص يمشي مسرعاً و أراحت سلامة كتفيها المتصلبتين عندما أدركت أنها خادمتهم. لم تكن عائلة سلامة تملك خادمة و كانت دائماً هيلدا مجال فضول لسلامة. على الأقل ظنت سلامة أن هيلدا اسمها. لم تكن هيلدا مسلمة إذ رأت قلادة صغيرة لصليب حول رقبتها عندما كانت تسقي الزهور أمام بيت أم نوف ذات صباح. لم تبتسم لها هيلدا من قبل و لكن سلامة ظنت أنه لم يكن بينهم الكثير من الأشياء المشتركة حتى تبتسم لها و تركت خيط التفكير هذا.

“أمي؟” نادت سلامة بثقل. كان وجهها حاراً إذ كانت تكره مواجهة الأغراب. لكن كما قالت أمها كانت سلامة تظن أي شخص فوق السابعة عشرة “غريباً” فلم تكن حكماً عادلاً بشهادتها.

تنهدت سلامة و سحبت نفس لتنادي مرة أخرى و لكن ظهرت لها هيلدا و أخذت الصينية منها. غضبت سلامة إذ انتهت مهمتها بدون أن يشكر مجهودها و لكن في نفس الوقت، في عمق نفسها، كانت شكورة أنها لن تواجه أمها بعد ما حدث في قاعة الامتحان اليوم. كلما تأخرت تلك المواجهة كلما كان ذلك أفضل.

انسحبت سلامة من ذلك البيت الأجنبي بهدوء و انتعلت حذاءها قبل أن تتجمد مكانها. لم يكن هناك عندما دخلت و لكنه كان ينظر إليها الآن بعينان صفراوان. لو لا تحرك صدره اللطيف لظن المرء أنه قد مات واقفاً. فعلاً، لم يكن هناك ذيل يتدلى من مؤخرته. من قطعه و لِمَ ستظل مسألة غامضة و لم تكن سلامة متأكدة أنها تود معرفة السبب إن كانت صادقة مع نفسها.

بسكون أثار اعجابها، تحركت سلامة بعيداً عن ذلك المخلوق و عندما ظنت أنها قد فرت منه أطلق صوتاً عميقاً من أسفل حلقه و ركضت سلامة إلى منزلها بدون أن تنظر وراءها. في خلال ثوان (و بدون أن تتأكد) سمعت صوت قط آخر و تبادل الاثنان صيحات التملك قبل أن تتم المعركة الحتمية بدراما ملائمة.

“لم تلهثين؟” سأل عبدالله. نظرت إليه سلامة بدهشة، تشعر أنها ما زالت في بيت أم نوف، قبل أن تستوعب أن عبدالله كان يلبس نظارته الآن فحسب.

“لا شيء،” مسحت سلامة شفتيها الجافتين بلسانها. “هل يوجد شيء مسلٍ على التلفاز؟”

ظهر أنه لم يكن هناك شيء مسلٍ. مئات من القنوات و لكن شيئاً لم يتملك اهتمامها. توقفت برهة على قناة حيوانات و ظهر فهد في شجرة قبل أن ينتقل لمقطع يظهر صورة غزال بريء. لم تنتظر سلامة للحظة التي ينقض فيها الفهد على الغزال و يقطعه إرباً. كانت قد أخطأت في هذا فيما مضى و لا زال دم ذلك الحيوان و عينيه الفارغتين يتملكان خيالها – و ليس بطريقة جميلة.

“هل فرحت أم نوف عندما رأت الحلوى؟” كان يريد عبدالله أن يعرف. كان قد انتقل من واجباته للتلوين على صورة رجل دبلوماسي في الجريدة. رأت سلامة أنه لم يكن يملك شارباً فيما مضى و لكن تأكد عبدالله من تصحيح هذا بقلم أخضر.

“لا أعرف،” قالت سلامة بتثاقل. “تلك الخادمة أخذت الصينية مني.”

“هيلدا؟” ضغط عبدالله. كان قد بدأ على جاجبيه. “إنها لا تعرف العربية. تتكلم بالانجليزية فقط.”

“أم نوف تعرف الإنجليزية؟” ردت سلامة بملل. كانت قد أسكتت التلفاز عندما انتقل لجولة من الإعلانات. “هل تظن أنه سيمطر قريباً؟”

“هل تحلمين؟ إننا في بداية الصيف!”

نظرت سلامة إلى عبدالله بنصف ابتسامة. “لا يليق بك السخرية، عبدالله.”

“إذاً لا تقولي أشياء مجنونة،” اقترح عبدالله بابتسامة لطيفة.

ضحكت سلامة و هي تغير جلستها للمرة المليون. كان دائماً يؤنبها أباها على ذلك. كان يقول أن الجلسة معها مقلقة لأنها تتحرك في مكانها يمنة و يسرى و لكن سلامة لم تستطع تملك نفسها. كانت فيها طاقة ضخمة و لم تكن دائماً تعرف كيف تفرغها. كانت أمها أقسى من أبيها في تلك الناحية. “هل تريدين الحمام؟” سألتها مرة ببرود. ضحك الحضور حينها و لكن سلامة لم تضحك. الآن و هي تتذكر الحادثة شعرت بالدم يسرع لوجنتيها. كانت دائماً أمها تحرجها أمام الجميع و لم تأبه. كانت سلامة تستطيع إحراجها بكثرة نسيانها و لكنها لم تفعل. ربما كان الأجدر بأمها أن تأخذ منها قدوة، فكرت سلامة لنفسها.

“سأخرج قليلاً،” نهضت سلامة.

“إلى أين؟” نهض عبدالله معها.

كان يلبس كندورته البيضاء. لم يكن شعره أسود مثل شعرها بل كان لون بين البني و الأحمر مثل لون شعر أمها.

“ستتسخ ملابسك،” أمسكت بمقبض الباب.

“سأكون حريصاً.”

خرجا في الجو الحار. نزلا الدرج العريض الذي كان يتقدم مستطيل البيوت. دفعا البابين اللذين لم يقفلا يوماً منذ سكنهما هنا و ارتدا لمكانهما بعد أن تركاها. لم يكن أول بيت عرفته سلامة. كانت لا تزال تتذكر شقتهم في بناية بيضاء قصيرة. كانت تخرج من النافذة حينذاك لتمشي في الشرفة المحاطة باسمنت مطرز بنقش فني ملتف. كانت تُخرج أصابعها من بين الثغور و هي تنظر إلى السيارات الصغيرة تتحرك في الشوارع و الأناس الأصغر. كان يسرها ذلك أيما سرور و هي تتخيل أنهم لعب بحوزة يدها. عندما ملت من ذلك كانت تدور في الشرفة المشتركة بين الشقق و تتسلق أجهزة التكييف المركزية المتذبذبة حتى تصل إلى الجهة الأخرى. توقف كل ذلك المرح عندما أمسكت بها أمها يوماً و أبرحتها ضرباً. لم تفهم حينها لم كان “عيباً” أن تفعل ذلك و حتى اليوم لم تفهم. ربما كانت تخاف أن يأتي أحد من الجيران و يشتكي أو ما شابه. كانت تظن سلامة بينها و بين نفسها أن كلمة عيب أدخلت المعجم حتى يسهل التربية على الأمهات و الآباء. إن لم يعجبك أمر ما يفعله أطفالك و كانوا ينتظروا تفسيراً منطقياً حتى يقتنعوا بكلامك؟ ألقي كلمة عيب فحسب.

“أحب تلك الشجرة،” أفاقها عبدالله من حلم يقظتها.

“أي شجرة؟”

“تلك،” أشّر عبدالله. “إن نظرت إليها من هذا الزاوية تبدو كأنها تبكي.”

“من المجنون الآن؟” نخرت سلامة و لكنها تبعته حتى ترى ما رآه. “كيف تبكي الشجرة؟”

“انظري! ذلك الغصن الداكن المتفرع مثل اليد و هي ترجع لتلامس الساق. طرف الساق البارز مثل حاجب و أنف. و انظري – ذلك الاخضرار هو شعره!”

عندما رأته ضحكت سلامة و صفقت بيديها. كان عبدالله ينظر إليها بسرور لأنها قد سرت. شعرت بشيء يجر قلبها عندما التقت عيناها بعيناه. كان عبدالله أبرأ من أن يتواجد. لم تكن الحياة لتعامل أمثاله برحمة و تمنت سلامة أن تحميه من كل كيد كائد. و لكنه قد فات الأوان. منذ شهر دخل عبدالله المنزل و عينه متورمة و تحاشى والدتهما عندما نادته للغداء متعذراً بلعبة الكترونية كان يريد التفرغ لها. لأن سلامة كانت تعرف عبدالله أفضل من أي انسان آخر دخلت لغرفته و كشفت الأمر. لم يعترف عبدالله بالأمر في البداية و لكن كانت سلامة أعند من أن ترضخ للقليل من الانزعاج و رمت بالقبعة الرياضية من على رأسه لتكشف التورم.

“من فعل هذا بك؟” طالبت سلامة.

“مجرد فتى،” هز عبدالله بكتفيه و هو يتحاشى عيناها.

انحنت سلامة عنده حتى أصبح عيناهما على ارتفاع واحد. “قل لي من هو. لا تخاف، لن أخبر أحد بالأمر.”

نظر إليها الآن بكلتا عيناه و ارتعشت سلامة و هي تنظر إلى حجم الضرر الذي ألحق بعينه اليسرى. كانت تلك اللكمة قد وصلت هدفها. “لن تخبري أبي؟”

“و لا أمي،” وعدت سلامة. “والله لن أخبرهما. هل ارتحت؟ الآن أخبرني من فعل هذا.”

“من يهتم،” هز كتفيه مجدداً و قد زال خطر إخبار الوالدين.

“أنا أهتم. الآن أخبرني و إلا أعطيت عينك الأخرى لكمة حتى تتناسبان.”

قهقه عبدالله قبل أن يتوقف الصوت في حلقه. أخذته عبرة فجأةً و أخفى وجهه بين ركبتيه. قبل أن تستطيع سلامة سؤاله مجدداً تمتم عبدالله شيء و انكتم صوته.

“ماذا؟ لم أسمعك،” عبست سلامة و هي تمسح ظهره.

“جاسم خلف،” رفع وجهه ليتضح صوته قبل أن يرجعه مكانه.

“جاسم خلف؟ و لِمِ تعاركت معه؟”

“قال… الأمر سخيف، سلامة،” تنهد عبدالله عالياً.

“ما زلت أريد معرفة الأمر السخيف،” قالت سلامة بحسرة.

قلب عبدالله عيناه، و قد تناسى تخبأة وجهه كلياً الآن. “قال سيارتنا تافهة و أننا فقراء. ارتحتي الآن؟”

تفاجئت سلامة برميه لعبارتها لها قبل أن تستوعب ما قاله.

“قال ماذا؟ ما خطب سيارة أبي؟” رفعت سلامة حاجبيها. “ظننت أن سيارات المرسيدس تعتبر فارهة؟”

“ليس التي من صنع 1995!” صاح عبدالله يائساً. “أنت لا تعرفين شيئاً، سلامة. سيارة جاسم خلف رائعة! إنها سيارة جديدة في السوق، أطلقوها هذه السنة!”

“اسمع، لا تهمني السيارات و أشكالها و أنواعها،” قالت سلامة بحزم. “كل ما يهمني أنه لا يفترض أن يلكم المرء لأن سيارته صنع 1995!”

ابتسم عبدالله و لكنها تلاشت ببطء. “إن كنت تريدين الحقيقة… أستحق هذه العين السوداء.”

تلاشت ابتسامة سلامة كذلك. “ما الذي تتحدث عنه؟ طبعاً لا تستحقها!”

هز رأسه يمنى و يسرى. “كلا، سلامة. حتى الأولاد الذين كانوا معه ضحكوا علي و قالوا أنني أستحق الضرب لأني قلت بأنه انسان سطحي ليس لديه جوهر.”

بدت سلامة و كأنها شمت شيء ذو رائحة كريهة. “أنت قلت ذلك؟ قلت أنه شخص سطحي؟ و ليس لديه جوهر!”

هز عبدالله بكتفيه. “سمعت أبي يقول أنه إن تباهى شخص ما بما يملك فهو سطحي، لا أكثر. و طبعاً، ليس لديه جوهر. ضحكوا علي في البداية، لم يأخذني أحد بجدية. و لكن لو رأيتي الطريقة التي كان ينظر إلى جاسم خلف… بدا و كأنني صفعته. و كأني لمست حقيقة في داخله و أزعجه ذلك. و لذلك كان لا بد له من أن يضربني.”

تذكرت سلامة تفاصيل الحادثة و هي تنظر الآن إلى عبدالله و هو يسقط للأرض بجانب شجرته المفضلة و ينظر بتركيز لمسيرة من النمل يتحركون إلى داخل و خارج مستعمرتهم.

“على فكرة، اتصل أبي،” ذكر عبدالله.

“ماذا!” شعرت سلامة أن دلو من الماء البارد قد صب على رأسها. “لم لم تذكر ذلك مسبقاً!”

“كنتِ في المدرسة عندما اتصل،” برر عبدالله. “كان يريد مكالمة أمي و لكنها كانت عند أم نوف.”

“هل كتبت الرقم؟”

“كلا. حفظته،” ابتسم عبدالله.

قلبت سلامة عيناها. “تحفظ الأرقام بسهولة و لكن لا تتذكر أن تقول لي أنه اتصل! دعنا نرجع للمنزل؛ أريد مكالمته.”

“لا… أعتقد من الأفضل ألا تتصلي به،” نصح عبدالله. كان قد أمسك بعود صغير و كان يقلبه بسرعة بين أصابعه حتى بدا كأنه يمسك بمروحة كهربائية قبل أن يوقفها فجأة لتظهر حقيقتها. “كان صوته غاضباً للغاية.”

“لا يهمني! عمل أو لا عمل لا يستطيع أبي أن يسافر و لا نكلمه حتى!”

“الأفضل ألا نتصل،” أصّر عبدالله و لكن كلماته وقعت على آذان صماء إذ كانت سلامة قد دفعت بالباب الخارجي و اختفت داخلاً و كانت بدون شك تنتظره.

تنهد عبدالله و هو يقوم ليلحقها. لم يكن يحب أن يخيب أملها لأنها رغم غلظتها أحياناً كان يعلم علمه بشروق الشمس في الصباح أن سلامة تحبه حباً عظيماً.

صعد الدرج ببطء، يكره أن يصل إلى البيت و لكنه في نهاية الأمر كان يقف أمام سلامة التي كانت تعبر المساحة أمام التليفون و يديها على خصرها. أشارت إليه ب”هيا” مختصرة و تنهد عبدالله ثانية قبل أن يقرر.

رفع السماعة إلي أذنه و أدخل الرقم. بدأ الرقم يدق و ناول السماعة لسلامة التي اتخذت وضعية حل الواجبات خاصته – على الركبتين – و كأن مكالمة أبيهما مشقة لا بد منها.

“آلو؟” هتفت سلامة في السماعة قبل أن تتصل حاجبيها بحيرة. “حسناً،” قالت بهدوء قبل أن ترجع السماعة إلى مكانها.

كان وجه عبدالله مثال البراءة و لكن النظرة التي أعطتها سلامة له كانت مخترقة.

“ما الرقم الذي أدخلته؟” سألته بسكون كاذب.

“الرقم الذي حفظته!” قال عبدالله بعينان واسعتان. “هل تريدينني أن أجرب مرة أخرى؟”

“إذاً أنت تعرف أن الرقم الذي أدخلته خاطىء؟” ابتسمت سلامة.

بلع عبدالله ريقه. “هو خاطىء؟”

لم يكن ينظر إليها. كان ينظر إلى التليفون و تحرك إليه بثقل.

“لم؟” أوقفته سلامة، و هي تطوي ذراعيها أمامه. لم يحاول أن يتفادى عينيها هذه المرة. كان من المستحيل أن يفعل ذلك. “لتدخل رقماً خاطئاً مرة أخرى؟”

“سلامة، أنا لست حاسوب حتى أحفظ كل شيء—”

“أنت لست حاسوب، و لكن طيلة السنوات القليلة التي عرفنا فيها بعضنا لم يحدث أن ادعيت أنك حفظت شيء ثم اتضح أنك كذبت – أو أخطأت!”

“كل بني آدم خطاء؟” حاول عبدالله بابتسامة صغيرة.

لم تشاركه سلامة روح الدعابة. “و خير الخطائين التوابون!”

مسح عبدالله وجهه. إن كانت المخابرات لديها شاغر كان يعرف عبدالله بالضبط من سيوصي. “حسناً، حسناً. سلامة، لن تفرحي.”

“بالطبع لن أفرح! لم تفعل هذا الشيء بي؟ هل تعلم كم أريد مكالمة أبي؟ و الآن تتصرف كمهرج و تدعي أنك تحفظ الرقم ثم تدخل رقماً خاطئاً عمداً و تتوقع أن أبلعها!”

“سلامة… أنا أعرف شيء لا تعرفينه.”

“رقم أبي المسافر؟” نخرت سلامة بسخرية. “هلا تفضلت و أدخلته الآن؟”

نظر إليها عبدالله نظرة استفزتها و أخافتها. تحركت شفتيه و لكنه ضغطهما بقوة قبل أن يدخل رقماً جديداً. وضع السماعة على الطاولة و خرج من الغرفة.

بشعور غريب ضغطت سلامة بالسماعة على أذنها مرة أخرى و حكّت أنفها و هي تحاول تفسير تصرف عبدالله الغير اعتيادي. قبل أن يستطيع أن يسرح خيالها بدا أن أحداً أجاب على الطرف الآخر.

“آلو؟ آلو، هذا أنت أبي؟”

“آلو؟ من المتصل؟”

شعرت سلامة بحلقها يجف و لكن بصوت تحدّى خوفها قالت: “هذه سلامة محمد. هل هذا رقم محمد ماجد؟”

“هذا هو،” قال الصوت و في نبرته الأنثوية شيء من الضحك.

“هل أستطيع مكالمته؟ أين هو؟ هل تعرفين متى سيأتي من السفر؟”

هنا خضع الصوت للضحك فعلاً و انتظرت سلامة بصبر حتى تنتهي. “السفر؟ محمد هنا منذ أن ترككم في شهر يناير!”

شعرت سلامة بشيء يُعصر في صدرها و كأن بطنها كان قد أفرغ من أحشاءه. كان شعوراً غريباً. “هل أستطيع مكالمته؟”

“ليس هنا الآن. أستطيع أن أمرر له رسالة إن أردت،” اقترح الصوت بمرح.

“كلا. كلا، شكراً،” قالت سلامة بأدب و أرجعت السماعة إلى مكانها. فجأة، تبين لها عدة أمور في نفس اللحظة: لم كانت أمهم تنهرهم كلما سألوا متى سيرجع أبيهم من السفر. كانت وجهته أمراً مجهولاً و كم تمنت سلامة أن تركل نفسها لعدم قدرتها على فهم الأمور طيلة هذه الفترة. تذكرت أن أمهما لم تكن تخرج إلى أم نوف إلا في المناسبات و العزائم فيما مضى و لكن منذ أن رحل أباها و هي تزورها بشكل شبه يومي. تذكرت أن أخوالها الذين لم ترهم منذ فترة يأتون مرة أو مرتين في الأسبوع و أن الجو الذي كان دوماً مبهج بوجودهم كان مكبوت بعض الشيء و لم تكن تُتبادل الابتسامات بالسهولة الأولى. تذكرت كل المرات التي كانت أمهما تسابقهما إلى الهاتف ثم تسحبه إلى الغرفة و حين عندما استرقت السمع كانت المكالمة في أصوات مكتومة لم تفهم منها شيئاً.

جلست سلامة على الأريكة، ذقنها في يدها و كأنها تفكر بما تأكله للعشاء. خطر امتحان الإنجليزية على بالها و لكن كان ذلك القلق و كأنه يخص شخص آخر، و كأنه حدث بعيد، و أنه لم يكن يستحق التفكيرفيه مرتين. فكرت في أمها، و في نفسها، في أبيها و في هذا المرأة المجهولة المرحة و لكن الفكرة الوحيدة التي أفاقتها كانت نظرة عبدالله لها و كأنه يشفق عليها من معرفة حقيقة الأمر.

عندها انسابات خطوط من الدموع الحارة على خديها و لكنها مسحتهما بدون أن تفكر. دست قدميها في الحذاء و خرجت. كان توأم العائلة الهندية يتمرجحان على الأرجوحة و دعا أحدهم سلامة أن تنضم إليهما أو أن تدفعهما.

“لاحقاً،” قالت بصوت لم يبدو كأنه صوتها. كان كل فكرها بعبدالله. منذ متى و هو يعرف بهذا الأمر؟ منذ متى و لم يخبرها؟ كيف عرف؟ كان بينهما سنتان و كانت هي الأكبر سناً و هو الأصغر. لم يكن يفترض أن يكون الوضع هكذا. شعرت و كأن كل الموازين المقبولة في هذا العالم قد انقلبت رأساً على عقب: الأسود أصبح أبيض و الأبيض أسود. النهار ليل و الليل نهار. لِمَ كان يجب أن يكون الأمر هكذا؟ لم تفهم و أرادت بكل ما أوتي قلبها من قوة أن يفهمها أحد – أي أحد – ما حدث.

ذهبت لبيت أم نوف و دخلت الصالة بدون أن تخلع حذائها. قالت لها هيلدا شيء و لكنها لم تُشغل مهاراتها الانجليزية المتواضعة في تلك اللحظة. دخلت إلى الغرفة و رأت طفلة صغيرة شقراء تمشي في لعبة متحركة زرقاء على عجلات. شعرت برغبة عامرة في البكاء عند رؤيتها لها و لكنها أزاحت بنظرها عنها و اندفعت للداخل حيث وقفت على رأس امرأتين في يديهما كأسين.

أطفأت أم نوف التلفاز و نظرت إلى وجه هذه الفتاة الدخيلة التي كانت ترتعش و هي تعطي أمها نظرة لم تكن بلائقة.

“سلامة! بسم الله، ما الذي حدث لك؟ هل هو الامتحان؟ إن شاء الله خير، لا تنظري إلي هكذا!”

كانت على وجه أمها ابتسامة. لم تكن هناك آثار دموع. كانت على ما يرام – في حالة كانت أبعد ما تكون عن نفسية سلامة الحالية.

“متى؟ متى كنت ستخبرينني؟”

“متى ماذا؟” نظرت إليها أمها. كانت الحمرة التي اكتست وجهها الشاحب أكبر دليل أن أمها ممثلة بارعة. شعرت سلامة بوخزة ضمير لها في تلك اللحظة و لكن غضبها و ألمها كانا أكبر.

“لم لم تقولي… منذ متى و أبي… هل تصدقين أني فعلاً ظننته مسافر؟”

بسمة أمها المتجمدة ذابت ببطء. عضت على شفتها و هي تنظر لابنتها. كانت سلامة دائماً تحلم باللحظة التي تستطيع فيها معاتبة أمها و لكنها لم تتصور أبداً أن يحدث الأمر بهذا الشكل.

“اتصلت الآن على رقمه الجديد. ردت علي امرأة. كانت تضحك، أتعرفين هذا؟”

“من الذي أذن لك بالاتصال عليه؟” قالت أمها بصوت غليظ ينافس الجليد في برودته. “من أين لك الرقم؟”

تجاهلت سلامة أسألتها. “هل تعرفين أن ولدك يعرف بالأمر كله؟ هل تعرفين أنه—” هنا انكسر صوت سلامة و غطت وجهها. لو رفعت سلامة عينيها لأمها لرأت امتلاء عينيها بالدموع أيضاً إلا أن سلامة اختارت تلك اللحظة الهروب بالسرعة التي دخلت فيها.

خرجت سلامة من البيت، متجاهلة أصوات كانت تعرف أنها تناديها، نزلت ذلك الدرج، أزاحت بالباب المتحرك من طريقها و ركضت. ركضت و هي لا تعرف أين تريد أن تركض و لكنها لم تتوقف. كادت أن تصدمها سيارة لو لا أنها خرجت من طريقها في اللحظة الأخيرة. اخترقت سور قصير و من ثم غابة نخيل. تراكم على حذائها طين مبلل و لكنها لم تهتم. كانت الشمس تسقط عليها تارة و يحميها ظل النخيل تارة أخرى. تعالت أصوات أنفاسها حتى بدا كأن طبل يدق في آذانها. خرجت من ذلك التكدس و جاءت على ساحة كبيرة من رمل البحر. كان يبدو مألوفاً لديها و كأنها كانت قد أتت هنا من قبل. كان لون الرمال الذهبي جميل و بروح مكسورة نزعت سلامة الحذاء من أرجلها حتى تغوص أصابعها في الرمل الحار. بكثر ما أحرقها الرمل لم تعره اهتمام. كانت تريد أن تحترق ليزيل هذا الألم الزائل شيء من الألم العظيم الذي في قلبها.

كانت كومة الرمال تنحني إلى أسفل و تبعته سلامة، حذاء في إحدى يديها. على يمينها استمرت كتلة النخل حتى وصلت فم البحر. كان مكاناً هادئاً لم تر فيه أحد. بدا لها لبرهة و كأنها الانسان الوحيد الذي قد تبقى على سطح الأرض. مشت إلى الأمواج المنحسرة و كأنها هابت غضبها و حزنها و جلست عنده حتى رجع الماء إليها يتغلغل بين أصابع قدميها و كأنه يحاول اكتساب رضاها.

ابتسمت سلامة و جلست، غير آبهة أن طرف ثوبها قد تبلل أو أن الشمس الحارة التي ضربت على رأسها كادت تصيبها بنوبة. لم تكن قد تمنت سلامة الموت من قبل و لكن كان لكل شيء بداية.

أجلست رأسها الثقيل على ذراعيها و نظرت إلى البحر اللانهائي. كان هناك مجموعة من النورس يطير في الأفق و حتى في مكانها كان باستطاعتها سماع صيحاتهم الغاضبة.

لم تعرف كم جلست سلامة هناك و لبرهة من الزمن توقف كل شيء و تلاشت الدنيا قليلاً قليلاً.

كان أبيهم يجلس على هذا الشاطىء نفسه. كانت أمهم تقف بابتسامة جميلة بجانبه و هي تلوح لها و لعبدالله من مكانهم.

رفع أباهم يده. “واحد… اثنان… ثلاثة!”

اندفعت هي و عبدالله بالركض. لم يكن أمام عبدالله فرصة. كانت أكبر و أسرع منه. كادت حجرة أن توقعها و لكنها استمرت لكيلا تهزم. وصلت إلى أبيها و هتفت بفرحة رامية نفسها في حضنه. كان قد استسلم عبدالله و بدأ بالبكاء.

ضحك أباها و أمها حينها و مشوا إليه ليطمأنوه. “لن أحب الفائز أكثر من الخاسر!”

كانت تلك العبارة محفورة في ذاكرتها.

ثم جاء العالم مرة أخرى و جاءت معها المرارة الموجعة.

فجأةً، أدركت سلامة أن الضوء كان قد تغير و أن لون البحر و الرمال كانت قد تغيرت درجاتها؛ و لكن الأهم من هذا و ذاك أنها علمت علم اليقين أنها لم تكن بمفردها. نهضت سلامة لقدميها بسرعة مذهلة، كل منى الموت منسية في حمى غريزة البقاء الصافية.

“سلامة، لا تخافي! هذا مجرد أنا!”

كانت سلامة قد ابتعدت عنه بضعة أمتار قبل أن تأتيها الشجاعة لتسترق نظرة و تدرك أن ذلك الجسم كان معهود عهودها بظلها.

بلعت سلامة بغلظة، لا تزال تشعر بقلبها ينبض بقوة و سرعة مذهلين في صدرها.

ركض إليها عبدالله، أخاها، و كانت ابتسامة غير منطقية على وجهه.

وقف أمامها و كأنه خجل و لكنه لم يقاوم طويلاً – انفجر ضاحكاً، ممسكاً بجسده. ضحك عالياً و حتى أنه سقط للأرض، الدموع تسيل من عينيه.

حتى مع حزن سلامة العميق كان لا بد أن تشاركه الضحك. كانت سلامة، أكثر من أي شيء آخر، تعرف موقفاً مضحكاً عندما تصادفه.

“من حسن حظك أنك لم تلاقني صاحية و إلا أغرقتك في البحر،” قالت سلامة عندما استرد أنفاسه.

ابتسم عبدالله ابتسامة صغيرة و لم يلاق عينيها. وخزها شيء في الداخل و رفعت يدها… و لكنها احتضنته.

“سلامة!”

“لِم كان يجب أن تحمل كل ذلك الثقل بمفردك؟ أحمق!”

“آخ، هذا يؤلم،” دفعها عبدالله رويداً و هو يمسح بالمكان الذي ضربته سلامة على رأسه.

“ألا تعرف أنك تستطيع أن تخبرني مثل هذا الأشياء؟” قالت سلامة و هي تنظر إليه بخليط من الندم و الألم. “ليس عليك أن تحمل في طياتك كل هذا!”

هز كتفيه و لكن سلامة أمسكت تلك الكتفين و هزتهم له. “لا تفعل ذلك!”

“أفعل ماذا؟” تنهد عبدالله.

“و لا تفعل ذلك أيضاً!” قالت سلامة من بين أسنان مرصوصة. “أنت أصغر و أبرأ من أن تمر بهذا! لا تهز كتفيك و تتنهد و كأنك رجل في الأربعين!”

ضحك عبدالله و لكن ضحكته ماتت عندما رأى تعبير وجهها الجديد. “هل تخاف من تلك القطة فعلاً؟”

“القطة الفاقدة ذيلها؟”

“من غيرها!” هتفت سلامة بجدية. “أم هل تتصنع كل شيء حتى تبدو بريئاً أمامي؟ و… لا تقل لي أن تلك اللكمة كانت لسبب آخر كذلك!”

“أندم أن أقول أني أخافها فعلاً،” قال عبدالله و في صوته شيء من الضيق. طوى ذراعيه و دفع شفته للخارج. جلس جواب سؤالها الآخر في الهواء.

“عبدالله، أخبرني، أرجوك!”

شيء في نبرتها جعله ينظر إليها. استقام فمه في تعبير جدي ندر أن تراه على وجه عبدالله.

“حسناً… لم تكن السيارات لها أية علاقة إن كنت تريدين الحقيقة. جاسم خلف… أباه يعرف أبي. أظنه يعمل لديه في الشركة ذاتها أو ما شابه. جاء لي هذا الدنيء و بدأ يعايرني بأن أبي قد تركنا. عندما قلت أني أستحق اللكمة كنت أعني كل كلمة – لأنك لو رأيت ما فعلته بوجهه لظننت تلك العين السوداء لعب أطفال.”

جف ريق سلامة. أين عبدالله و من هذا الشخص الغريب الذي ادعى الأخوة؟

“و ذلك الذي قلت عنه؟”

“أنه سطحي بدون جوهر؟ أفخر أن أقول أن هذا حدث فعلاً.”

“إذاً… إذاً لم انفعلت عندما هددت أن أخبر أبي؟”

انمسح الضيق من تعابيره. “هو يعرف أني أعرف و لكن أمي لا تعرف –  و لم أرد الأمر أن يصل إليها.”

“هه؟”

ضحك عبدالله. “أمي لا تعرف أني عالم بالموضوع. سمعتها تقول لأم نوف ذات يوم أن أبي قد طلقها و أنه يعيش مع امرأة أخرى الآن. كنت أريد أن آخذ بعض المصروف منها حينها و لكني تراجعت عندما سمعت ما سمعت. كان هذا عندما بدأتِ بالدراسة لامتحاناتك. ذات ليلة رأيت أمي تكتب رقماً و عرفت فوراً أنه رقم أبي الجديد فاتصلت عليه. روى لي الأمر كاملاً و طلب مني ألا أخبرك بالموضوع خاصةً و أنك مشغولة بالدراسة. يقول أنه سيسافر بنا إلى ماليزيا عندما تنتهين من الامتحانات. أتوقع أن يأتي ليصطحبنا نهاية الأسبوع، على الأرجح.”

دار رأس سلامة. “و لم لم تخبرني عندما دخلت البيت اليوم؟ كانت لديك فرص كثيرة لتخبرني!”

ابتسم عبدالله بحزن. “قال أنه يريد أن نستمتع بالاجازة معاً و أنك لن ترضي أن ترافقيه إن أخبرك مسبقاً. قال أنه أرادها أن تكون رحلة ممتعة.”

“بدون أمي؟” هزت سلامة برأسها.

جلست على الأرض و رفعت عينيها إليه. “ذهبت و صارخت في وجه أمي و ثم أتيت هنا.”

“أعرف،” قال بشكل قاطع. “اتصلت أمي على خالي محمد و هم جميعاً في حالة هستيرية و يبحثون عنك.”

“أوه…” احمر وجه سلامة و هي تقف مجدداً. تنهدت عندما نظرت إلى ثوبه. “قلت لك أن كندورتك ستتسخ.”

“لا يهم. أين حذائك؟”

“هناك،” أومأت سلامة بذقنها لتمشي إليهما. مشى عبدالله معها بسكون و لم يتكلم و هي تلبس الحذاء. نظرت إليه سلامة نظرة فاحصة و كأنها ترى شخصاً غريباً لم تكن قد رأته من قبل. كان يبتسم لشيء على الأرض و نظرت إلى الأسفل لترى سلطعون يمشي مشيته الجانبية و ارتاح قلبها لأنها كانت تعرف الأخ الذي تسعده دواب الأرض.

“انتهيت؟” تأكد عبدالله قبل أن يكتسي وجهه ابتسامة مشاغبة. “أظن أن اليوم فرصة مناسبة حتى أثبت أني أسرع منك. واحد، اثنان، ثلاثة!”

قبل أن تستوعب سلامة ما حدث كان قد ابتعد عنها عبدالله مساحة محترمة و ملأها نشوة حين عرفت بالضبط ما كان يقصده.

“انتظر! انتظر، عبدالله، هذا غير عادل!”

وصلت ضحكات عبدالله لها و لكنها لم تأبه. كان عبدالله يستحق الفوز اليوم. كانت طوال هذه الفترة تظنه طفل صغير يحتاج للرعاية عندما كانت هي البريئة التي لا تعلم. كان الصبور الذي لم يشتكي و أخذ الدنيا كما تأتيه. ربما كان أقل شيء تعطيه في المقابل، فكرت سلامة لنفسها و هي تتجاوز سيقان النخيل العالية، أن تمضي معه رحلة سعيدة في شرق آسيا بدون أن تشتكي هي كذلك. إن لم يكن لأباها فلشخص أحبته سلامة أكثر من أي شخص آخر في حياتها.

 – تمت –

 Author: Iman Ali

Advertisement

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s